0
يا أبت اسمع مني -14-


أجواء بيتنا ليست كما اعتدتها..
لم أعتد هذا الصخب !
غريب حال جيراننا اليوم ! كثر دخولهم وخروجهم، وعَلَتْ أصواتهم..





الجدران تزدان بالأضواء المعلقة عبر أسلاك كهربائية، بها لمبات ملونة، يتبادلن الإضاءة بالتناوب فيما بينهن.

زغاريد في كل الأركان، أغاني وأفراح، ابتسامات الناس لي في كل مكان أوحت لي أنني في يوم سعدي.

والحقيقة ..
أنني أدري عن مصدر سعادة أمي وسائر بيتنا وجيراننا وأهل بلدتنا، فاليوم .. يعود أبي !!

يا رفاق ..
عاد أبي ..
أيها الحي ..

بشوارعك وحواريك وأشجارك وجدرانك وكل أركانك .. عاد أبي !!
فلن تراني وحيدًا بعد اليوم، لن تنفرد بي في سيري عبرك ليلا أو نهارًا.. لقد عاد أبي !!

يالوعة الوجد والفقد والبعد والشوق..
يا مرارة الاشتياق لحرفين يمثلان الروح "أب" ..
أي حروف تلك، بل أي قواميس يمكنها أن تعبر عن مشاعر طفل يعلم أن والده ما زالت تتردد أنفاسه، لكنه لا يوقن بحياته !

عشر سنوات مرت على البعد..
وإني لأرجو أن يسامحني إذا ما نسيت بعض ملامحه، فإني عند سفره للعمل خارج الوطن كنت لم أبلغ العاشرة بعد !!

محظوظون أولئك الذين يتمتعون بكل الملامح لوالدهم يوميًا .. ولو عبر برامج التواصل !
مسكين هذا الغريب، يغترب معه كل أهله، هو .. يشتاق إلى وطنٍ يرونه هم بدونه خالي الوطن !!

-      مالك ؟
= لا مفيش !
-      لا، شكلك قلقان وحيران !
= لا أبدا، أكيد من فرحتي برجوع حضرتك بس !!

هكذا سألني .. وهكذا أجبته

كان هذا أول لقاء يجمعنا بعد عناق الرجوع وآهات الاحتياج، بكيت بين أحضانه كثيرا كثيرا، كنت في احتياج لا يوصف لحضنه كي أعالج به خواء الروح بداخلي، كنت قبل عودته أشعر بلفح الهواء يحطم صدري، كنت أحتاج لمناعة قوية، وقد وجدتها حينما ارتميت في أحضانه.

نعم ..
أنا الآن في ريعان الشباب، في قوته وفورته، يكتمل عقلي رويدا رويدا، لكنني في الحقيقة لا زلت أحمل مشاعر وأحاسيس الطفل بفرحته وانبهاره وقت عودة والده إلى البيت، يظل يتقافز ويزحف تجاهه، يقوم تارة ويهوي تارات، يرفع يديه وعينيه تجاه والده راغبا في أن يحتضنه حاملا له، مقبلا خديه، ماسحًا على رأسه.

أحتاج هذه الطفولة بكل تفاصيلها، خذوا ما تبقى من عمري وأعيدوا إلي تلك التفاصيل، أوعدكم أنني سأسامح في كل دمعاتي التي قضيت كثيرا من الليالي أذرفها دون قدرة على التوقف إلا بحلول ذلك الصداع الذي كان يؤرق أيام تلك الليالي، فقد وجدت اليوم اليد التي كنت أنتظرها لتمسح تلك الدموع.

سأظل ممتنًّا لتلك الظروف التي أعادت لي والدي، وإن كانت تحمل الكثير من الألم لمرض أمي !!
لقد اكتشف والدي حيرتي وقلقي بكل سهولة، رغم محاولتي التظاهر بالتماسك..

ربما أكون معذورا في هذا ..
فلا أدري هل يحب أن آكل معه ؟ أم أنتظره ؟
هل تعجبه طريقة أكلي ؟
هل أجلس قبله؟ هل أجلس أمامه ؟ أم بجواره ؟
ماذا ألبس في حضرته ؟
كيف أتكلم ؟
هل يحب الصوت القوي الواضح ؟ أم الذي لا يُسمع ؟
بماذا أناديه ؟
هل أحدثه عن دراستي أم لا ؟
هل أضحك أمامه .. أمزح .. أخرج .. أدخل ؟!!

بتُّ أول ليلة بعد حضوره مقيدا، تطحنني الأفكار وتذهب بي وتجيء، أشعر بوحشة وحيرة وقلق ويدور بذهني كثير من الأسئلة التي لا إجابة لها قبل جلوسي معه لأول مرة منذ أن سافر وأنا طفل لم ينقش ملامحه وتفاصيله في جدران ذاتي .

هممت كثيرا أن أحدثه أن لا شيء يعوضني غيابه، هممت كثيرا أن أعاتبه كأشد ما تكون المعاتبة، لكنني قلت لنفسي: كل هذا يهون ما دام قد عاد أبي !!

إلا أنه لم تدم فرحتي طويلا، فما كاد يمر اليوم الأول لعودة أبي حتى زاد مرض أمي عليها، وزاد خوفي وقلقي عليها حتى نسيت كل ما يحيط بي من أشخاص وأحداث إلا هي، فهي دنياي وروحي التي تسكن أنفاسها.

يدخل الطبيب ويخرج والقلق بادٍ على وجهه:
طمنا يا دكتور !
خير !
سترك يا رب !
طب إيه العمل ؟! ..

كلام كثير وأصوات مختلطة أوضح ما فيها صوت سيارة الإسعاف.
تتلاحق الأحداث بشكل مرعب، صراخ وبكاء .. انهيارات .. أصوات تلهج بالدعوات .. أطباء يتهامسون، يشيرون على من معهم بالمساعدة .. تحركات هنا وهناك داخل غرفة الطوارئ وخارجها، قياس النبضات .. صدمات كهربائية .. ثم .. يخرج الطبيب منكس الرأس:
البقاء لله !!
أنت تكذب ! أنت لا تفهم شيئا !
ابحثوا لي عن طبيب آخر ..
بل هيا إلى مشفى آخر ..
لا تهدئوني .. سأمزقه، أنا لا أصدقه، اتركوني .. اتركوني ..
أمي ! أمي !
أنا أثق أنها مجرد غيبوبة أو ربما إغماءة وستفيق، والله سترد علي .. والله سترد عليَّ !!
لكنها ..
ولأول مرة .. تخذلني فلم تردّ !!
لقد ماتت إذًا.

أي طعم للحياة دون حياتها، ألهذا الحد دنيانا قاسية !
لم يبق لي من وجوه الناس إلا وجه أبي، فالحمد لله أن عاد في الوقت الصائب. أو .. هكذا منيتُ نفسي !!

وما هي إلا أيام معدودات حتى عاد كل شيء كما كان..
عدتُ وحيدًا، فقد أصر والدي على السفر مرة أخرى، هناك أصبح مجتمعًا له، أصبح وطنًا يأوي إليه، ويبدو أنه قد جاء زائرًا، أو ليدرك اللحظات الأخيرة في عمر الصبر والتضحية والحنان، أو ربما ليذكرني أنني لا زلت أحتفظ بأب على قيد الحياة.

عاد ..
وعاد كل شيء كما كان ..

إلا أمي ..
لم .. ولن تعود !!

#ياأبت_اسمع_مني
#كمال_اليماني

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
تعريب وتطوير مدونة الفوتوشوب للعرب
مدونة كمال اليماني © 2010 | عودة الى الاعلى
Designed by Chica Blogger